اللبناني يبني مشاريعه الصغيرة والدولة تهدّم
أرهقت الأزمة الاقتصادية كاهل اللبناني، من صغيره حتى كبيره، وتحوّلت حياته إلى صراع يوميّ من أجل البقاء. هذه الأزمة الاقتصادية التي ألقت بوزرها على يوميّات الشعب، تسبّبت بفقدان العديد من أبناء البلد لوظائفهم ومصدر قوتهم الحياتيّ.
هذا ما دفع بالعديد منهم إلى إيجاد حلول بديلة لتأمين لقمة عيشهم، فاتجه البعض إلى إطلاق مشاريع تجارية وزراعية فردية، علّهم يؤمنون اكتفاءهم الذاتيّ في هذه الظروف.
فهل فعلاً تؤمن هذه المشاريع الحاجيات الأساسية لأصحابها؟ وهل يمكن أن تكون هذه المبادرات الفردية محفّزاً لاقتصاد وطنيّ مثمر ومزدهر؟ هذا ما يكشفه موقع “أحوال” بعد الاطلاع على الواقع اللبناني اليوم.
التجارة الإلكترونية… حلّ بديل
رواد الجميّل، شاب لبناني حائز على إجازة في المحاسبة، تولّى مهنة والده في بيع الملابس بعد وفاته. ولكن في السنوات الأخيرة ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، تأثر عمل رواد لجهة التكاليف ورواتب الموظفين وشراء البضائع. لذلك اتجه إلى التجارة الإلكترونية التي خففت بعض التكاليف وساعدته على الاستمرار.
ويقول رواد لموقع “أحوال”، “أولاً بدأت الأوضاع الاقتصادية بالتردّي، وازدادت سوءاً مع تفشّي جائحة كورونا، ما دفعنا إلى الإقفال في تلك الفترة. هذا ما أثّر على الإنتاجية في العمل، لذا كان الخيار البديل التجارة الإلكترونية”.
وأضاف “لقد قدّمت على العديد من الوظائف في شركات مختلفة، ولكن لم ألقَ جواباً؛ هذا ما زادني إصراراً على الإنطلاق في مجال آخر للاستمرار”. ويشير إلى أنّ “فكرة بيع الجوارب الملوّنة عبر الانترنت بدأت خلال فترة الحجر المنزلي، “حين اشتريت كمية محدودة أولاً بهدف التجربة. والآن يمكن القول بأن هذا العمل ساعدني على الاستمرار”.
العمل الفرديّ أفضل من الوظيفة
كلود نمر، على غرار رواد، فقدت الأمل في العثور على وظيفة مناسبة لها ضمن مجال اختصاصها، وهي الحائزة على شهادة جامعية في مجال التجارة. وبعد أن مرّت بظروف صعبة، ومع تردّي الاوضاع في البلاد، اتجهت كلود إلى صناعة الزيوت الطبيعية التي تعلّمتها وباتت تعدّها بنفسها وتبيعها عبر الإنترنت.
واعتبرت كلود، في حديث لموقع “أحوال”، أنّ “إطلاق العمل التجاري الخاص هو عمل فرديّ يمنح صاحبه حرية أكبر وراحة أفضل”. وأضافت أنّ “هذا العمل التجاري هو سندها وأفضل من الإلتزام بوظيفة ترهن مصير الموظفين بمصير الشركة كاملة”.
وعمّا إذا كان هذا العمل الفردي يؤمن لها اكتفاءً ذاتياً، أكّدت كلود أنّه “يوفّر لها حاجاتها الحياتية ولكنه كما كل عمل يتأثر بالأوضاع الاقتصادية في البلاد وهذا أمر طبيعي”.
للمشاريع الزراعية حصّتها لدى الشباب اللبناني
جيسيكا حكيّم، شابة لبنانية، دفعها حبّها للقرية إلى البحث عن طريقة جديدة لإعادة النبض الشبابي إليها، فاختارت أن تخوض التجربة الزراعية عبر مشروعها “الزروع”. هذا المشروع الذي انطلق قبل الأزمة، يهدف إلى إعادة الحياة الى الزراعة التي أهملتها الدولة.
وتخبر جيسيكا، الحائزة على شهادة في المحاسبة والإدارة، أنّ “الفكرة انطلقت منذ سنتين ولكن التطبيق تمّ قبل سنة”، وتشرح أنّ “إنتاج الخضار الورقية يتم عبر تقنية حديثة وفريدة من نوعها، تقوم على إعادة تدوير أكياس النيلون”.
وفي ظلّ الازمة الراهنة، أشارت جيسيكا لموقع “أحوال”، إلى أنّ “هذا المشروع ساعدها على تأمين اكتفائها الذاتي”، ولكنها تأسف “أنّ الدولة لا تدعم هذه المشاريع الصغيرة التي يقدم عليها الشباب اليوم، والتي يمكن ان تشكّل دعماً أساسياً للاقتصاد الوطني”.
كما لفتت إلى “أنّ إهمال الدولة للقطاع الزراعي وعدم توفير البنى التحتية الضرورية للمزارع من كهرباء وماء، يلقي على المزارع أعباء كثيرة، بالإضافة إلى اتجاه الدولة لدعم المنتجات المستوردة عوض توفير الدعم للإنتاج المحلي”.
أما عن أبرز الصعوبات التي تواجهها جيسيكا، فأشارت إلى “صعوبة تصريف الإنتاج، لا سيّما بعد انفجار بيروت، والأوضاع الراهنة مع إقفال العديد من المطاعم والفنادق أبوابها، إلى جانب غياب المعايير المحددة من الدولة للتصريف الخارجي”.
الاقتصادات العالمية والمشاريع الصغيرة
برزت في السنوات الأخيرة برامج الدعم العديدة التي قدّمتها المنظمات الدولية في مختلف المجالات لتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتحديداً في الدول النامية. واعتبرت منظمة الأمم المتحدة أنّ هذه المشاريع تشكّل العمود الفقري لغالبية الاقتصادات في العالم، والمساهم الأكبر في تكوين اقتصاد الدول النامية.
وكشف المجلس الدولي للشركات الصغيرة، أنّ هذه المؤسسات، سواءً أكانت رسمية أم غير رسمية، تشكّل أكثر من 90% من الشركات في العالم. وبيّن أن قوامه الوظيفي يصل إلى 70% من اليد العاملة، في حين تغطّي 50% من الناتج المحلّي الاجمالي.
وتعتبر المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم هي كل شركة صغيرة الحجم لا يتجاوز عدد موظفيها المئتين وخمسين موظفاً. وعلى سبيل المثال، حدّد الاتحاد الأوروبي أنّ كل شركة يقلّ عدد موظّفيها عن 250 موظفاً تصنّف ضمن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. في حين صنّف الشركات التي يقلّ عدد العاملين فيها عن 50 عاملاً، بأنّها شركة صغيرة الحجم. ومن بين هذه الشركات، يمكن تسمية مكاتب المحاماة، العيادات الطبية الفردية، صالونات الحلاقة، النادي الرياضي، المشاريع الزراعية الفردية، وشركات التكنولوجيا…
المشاريع الصغيرة ركن أساسي للاقتصاد الوطني
وفي لبنان، كشفت وزارة الاقتصاد والتجارة أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم تشكّل حوالى 95% من الشركات في البلاد. وأشارت إلى أنّ هذه الشركات تضمّ حوالى 50% من اليد العاملة المحلية.
وصنّفت الوزارة هذه الشركات على أنّها ركن أساسيّ للاقتصاد الوطني، معتبرة أنّها محرّك اقتصادي رئيسي لتعزيز النمو في البلاد وخلق فرص عمل للشباب اللبناني.
وبادرت الوزارة الى إبرام الشراكات مع هذه المؤسسات وتوفير برامج دعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، بالإضافة إلى جمع ونشر المعلومات الخاص بهذا القطاع.
المشاريع عديدة… ولكن لا قرار سياسي
مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد سوءاً، وفي ظل فقدان العديد من اللبنانيين لوظائفهم أو تدنّي رواتبهم، اتجه الشعب الى المشاريع الصغيرة على اختلاف أنواعها. فماذا يقول الباحث الاقتصادي، البروفسور جاسم عجّاقة، حول هذا الموضوع؟
ميّز عجّاقة، في مقابلة مع موقع “أحوال”، بين نوعين من الأعمال، الأول هو النوع الوظيفيّ الذي يقوم على شغل منصب في شركة معيّنة؛ والنوع الثاني هو ريادة الأعمال حيث ينشئ الأشخاص شركاتهم الخاصة، سواءً أكانت صغيرة أم كبيرة.
ولفت إلى أنّ “لبنان بحاجة اليوم إلى هذا النوع من المشاريع التي تساعد على الخروج من الركود الاقتصادي الذي يمرّ به البلد”. وكشف أنّ “هذه الشركات كانت تؤمّن حوالى 50% من اليد العاملة في لبنان، لذا تعتبر ضرورية جداً للنهوض بالاقتصاد اللبناني”.
وعن المشاريع الصغيرة التي تظهر اليوم في ظلّ الظروف الراهنة، أوضح عجّاقة أنّ “هذا النوع من المشاريع مهم جداً أولاً للأفراد الذين ينشئونه، وثانياً للبلاد خصوصاً لجهة خفض الأسعار التي ترتفع بشكل خياليّ؛ إلا أنّها لا تزال حتى اليوم خجولة، ولا تؤثر بطريقة فعلية على الاقتصاد الوطنيّ، بل تكتفي بتوفير الحاجة الضرورية لأصحابها”.
وعن دور الدولة في دعم هذه المشاريع، لفت عجّاقة إلى أنّ “الإشكالية البارزة في هذا الإطار هو غياب القرار السياسي على الرغم من توفّر العديد من الخطوات التي يمكن للدولة اعتمادها لدعم هذه المشاريع”. وذكر بعض هذه الخطوات على سبيل المثال، كاستعادة الاملاك العامة المصادرة من دون وجه حق، وتوفير المساحات الزراعية لتشجيع الزراعة، أو تقديم المباني للشركات الناشئة مقابل بدل ماديّ بسيط، بالإضافة إلى تقديم بعض التسهيلات لأصحاب هذه المشاريع.
واستغرب “كيف أن الدولة تقدم على دعم المنتجات والبضائع المستوردة، عوض دعم الإنتاج المحلّي!” مشيراً إلى أنّ “كلفة الإنتاج المحلّي بات أقلّ من كلفة الاستيراد، نظراً لسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية”.
وأكّد أن “هذه الشركات هي عصب الاقتصاد في العديد من الدول، على سبيل المثال الولايات المتحدة الأميركية واليابان. واعتبرها البنك الدولي الأداة الرئيسية اليوم لمحاربة الفقر”. وختم بالتشديد على أن “كل الحلول ممكنة ولكنها تحتاج إلى قرار سياسي للتطبيق”.
فهل يمكن أن يتّحد أصحاب القرار في الدولة على تحرير الاقتصاد الوطني من التجاذبات والمحاصصات والنهوض بالبلاد من جديد؟
ماري الحصري